1 قراءة دقيقة
الشعر المنثور والنثر الشعري

نفرّق هنا بين مصطلحات ثلاثة، هي الشعر المنثور والنثر الشعري وقصيدة النثر، فلا شكّ في أنها مصطلحات مختلفة، فالشعر المنثور غير النثر الشعري، والنثر الشعري غير قصيدة النثر، وقد تخبّط بهذه المصطلحات كثير من الدارسين والشعراء المعاصرين، وخلطوا بين الأجناس الثلاثة خلطاً عجيباً، ثم تلاشت بعد ذلك تسمية الشعر المنثور والنثر الشعري في كتاباتنا الصحفية المستعجلة، وبقي مصطلح قصيدة النثر الذي أُلحق به ظلماً كل نثر فني غير موزون، وصار شعراء قصيدة النثر عندنا أعداداً كبيرة جداً، وقد توافرت لبعضهم مناسبات عديدة للظهور، ولذلك علينا أولاً أن نتوقف عند هذه المصطلحات، ونحاول أن نتلمّس الفروق بينها من خلال بعض المعطيات.

أما الشعر المنثور فقد قدّم أمين الريحاني تعريفاً له، فقال: "يُدعى هذا النوع من الشعر الجديد بالإفرنسية VERSE LIBRE وبالإنكليزية FREE VERSE –أيّ الشعر الحرّ الطليق –وهو آخر ما إليه الارتقاء الشعري عند الإفرنج. وبالأخص عند الإنكليز والأمريكيين، فشكسبير أطلق الشعر الإنكليزي من قيود القافية، وولت وتمن أطلقه من قيود العروض كالأوزان الاصطلاحية والأبحر العرفية، على أنّ لهذا الشعر الطليق وزناً جديداً مخصوصاً، وقد تجيء القصيدة فيه من أبحر عديدة متنوعة وولت وتمن هو مبتكر هذه الطريقة وزعيمها. وقد انضمّ تحت لوائه بعد موته كثير من شعراء أمريكا وأوربا العصريين. وفي الولايات المتحدة اليوم جمعيات (وتمنية) بين أعضائها فريق من الأدباء المغالين بمحاسن شعره، المتخلّقين بأخلاقه الديمقراطية، المتشيّعين لفلسفته الأمريكية، إذ أنّ مزايا شعره لا تنحصر بقالبه الغريب الجديد فقط، بل بما فيه من الفلسفة والخيال مما هو أغرب

يُلاحظ على هذا التعريف ما يلي:

1- أنّ هذا اللون أرفع ما عند الإفرنج من شعر، لتحرّره من الأبحر المعروفة، وهذا يعني أنّ الشعر شكل عند الريحاني، أو هكذا فهمه.
2- أن هذا اللون لا يخلو من وزن مخصوص، وقد تجيء فيه القصيدة متعدّدة الأوزان، ولكنّ الريحاني لم يتعرض لا من قريب أو من بعيد لهذا الوزن المخصوص، وربما كان في ذهنه الإيقاع النثري الداخلي بما فيه من تلوينات وحركات مختلفة. أما أن تجيء القصيدة الواحدة من أبحر عديدة فهذا ماهو مستغرب من الريحاني، وعلى كلّ حال فقد بدأ شعراء المهجر بعد ذلك ينظمون بعض قصائدهم على غير بحر واحد، ولكنّها أوزان عربية معروفة، ومن ذلك قصيدة "المواكب" لجبران، وقصيدة "الشاعر والسلطان الجائر" لأبي ماضي، وعُرف هذا اللون في شعر الوطن عند نقولا فياض في ديوانه "رفيف الأقحوان"، وعند إلياس أبي شبكة، في غير قصيدة، ثم نظم عليه بدر شاكر السياب، وزاوج بين الشعر العمودي وشعر التفعيلة في بعض قصائده، ونجده عند سوى هؤلاء الشعراء أيضاً.
3- أنّ مبتكر هذا اللون وزعيمه دون منازع الشاعر الأمريكي وولت ويتمن، وهذا يعني أن الشعر المنثور العربي يتمثّل ما نظمه ويتمن، ويستهدي به في كتاباته الجديدة.
4- أن فلسفة ويتمن في شعره وخياله خلاّقان جديدان يرفدان شكله الجديدة.
5- الجمعيات الوتمنية في أمريكا مغالية بمحاسن شعر ويتمن، وهذا استدراك من الريحاني على الرغم من أنّه معجب بهذا اللون من الشعر.
وثمة ناقد معاصر يعرّف هذا اللون من الشعر، فيقول: "الشعر المنثور: يُستخدم هذا المصطلح العربي في مقابل ما يُسمَّى في الأدب الإنكليزي POETRY IN PROSE، وكذلك في مقابل الشعر الحرّ FREE VERSE بالمفهوم الأمريكي –الإنكليزي، لاسيما النوع الذي يكتبه والت هوايتمان WALT WHITEMAN"13-.

ويصف موريه هذا اللون من الشعر في مكان آخر من كتابه، فيقول: "أما الشعر المنثور فقد قام على أساس الإيقاع النثري باستخدام موسيقى الفكر التي تعتمد على التوازي والترادف والتقابل والتنظيم التصاعدي للأفكار، إلى جانب تكرار السطور والكلمات والأفكار في مجموعات متنوعة –وذلك تقليداً للشعر الحرّ الذي يكتبه الإفرنج

يُلاحظ على هذين التعريفين ما يلي:

1-أنّ الشعر المنثور مصطلح جديد في الشعر العربي، وهو منقول من الثقافة الإنكليزية الأمريكية بعامة، ومن أعمال ويتمن بخاصة.. أي هو تقليد لهذا اللون الأمريكي أو الإنكليزي.
2-أنّه يعتمد على الإيقاع النثري بدلاً من الإيقاع الخارجي الوزني.
3-أنه يعتمد على التوازي بين الجمل لتعويض ما فقده من إيقاع خارجي.
4-أنه يعتمد على الترادف الصوتي والمعنوي، لتعويض الإيقاع الخارجي.
5-أنه يقوم على التقابل الضدّي في المفردات والجمل والتراكيب (المقابلة بين الشيء ونقيضه).
7-أنه يعتمد على التكرار في السطور والكلمات والأفكار.
كان أمين الريحاني أول من فتح هذا الباب في عام 1905 في مجموعته "هتاف الأودية" التي استهدى فيها بخطا ويتمن، ومنها قوله في مرثاة الملك فيصل:

حلّق النّسْرُ في الفضاء بعيدا

رجع النّسْرُ في الفضاء شهيدا

نسرُ العروبة مدرجهُ السهول

ومشحذ جناحه جبال الرسول

نسرُ العروبة حبيب الحرم، وربيب البوادي

البادية مرضعته، والخيام مأواهُ

الرمال فراشه وملعب صباهُ

نسر العروبة في حمى الحرية

طليقٌ جريءٌ، وديعٌ أبيٌّ أنيسٌ وفيّ

إنّ التأمل في هذا المقطع يبيّن ما يلي:

1-شعر موزون ومقفّى إلى حدٍّ ما، وهو يعتمد على التوازي والتساوي بين الجمل في إيقاعيتها الداخلية، فالسطران الأول والثاني متساويان إيقاعيّاً، وهما من بحر الخفيف، والسطر الأخير من بحر المتقارب.
2-وزّعت الأبيات على نهايات القوافي، وعند استقرار الإيقاع، على حرف الروي، وإن كانت القوافي مختلفة.
3-التكرار حاصل بين بعض المفردات (النسر –في الفضاء- نسر العروبة.. الخ).
4-موضوع القصيدة من الموضوعات الموغلة في التقليدية، وهو الرثاء.
5-الصور جامدة باهتة مألوفة.
ونتوصل أخيراً إلى أنّ ثورة الريحاني كانت في هذا المقطع في الشكل الخارجي، والشكل الخارجي لا يعني الحياة، وإنما هو إبدال شكل بآخر.

ومما نظمه الريحاني أيضاً هذا المقطع من قصيدته "ابنة فرعون" ألقاها في القاهرة سنة 1922:

أكبر الشرقيات الباسمات للدهر
وأحدث الشرقيات الناهضات..
هي أول من حمل ميزان القسط
وأول من استرقَّ العباد
لها الصولجان المرصع ماساً
ولها السوط الملطّخ دما
أوَّل من قال للموت: لا
وأول من قال للحياة: نعم

يلاحظ القارئ على هذه الأبيات ما يلي:

1-التداخل شكلياً، وبخاصة في توزيع الشطرات، بين مصطلحي "الشعر المرسل" و "الشعر المنثور"، فالأبيات وزّعت على طريقة الشعر المرسل، ولكنه منظوم، وليس في هذه الأبيات وزن محدّد، والشعر المرسل معروف قبل الريحاني (حسّون)، ولذلك فإنها تندرج في نهاية المطاف في قائمة الشعر المنثور.
2-أن اللغة التي يخاطب بها الريحاني قارئه نثرية، وصوره نثرية، فلم يمتلك هذا الأديب، في هذه الأبيات على الأقل، اللغة الشعرية المتدفقة والمتألقة والمتوهجة والموحية التي تستطيع أن تجذبنا إليها.
3-يتأتّى الإيقاع النثري في الأبيات من التساوي الإيقاعي الخارجي للجمل.
4-لا تزال الخطابية مهيمنة على الأبيات، وهذا ما عرفناه في الشعر الغنائي القديم.
ونقدّم مقطعاً ثالثاً وأخيراً من الشعر المنثور للريحاني، وهو المقطع الأول من قصيدته "ريح سموم":
بربِّك القيوم، ما الذي تظنّه يدوم؟
صوت سمعته في الكروم، وقد مرّت عليها ريح سموم
فجفّت الأرض. وعادت كثيرة الكلوم
سقطت الجفان، وفزعت الأوراق إلى الغيوم
صوت صارخ في النجوم، ما الذي تظنّه يدوم؟
تذكّرنا هذه الأبيات بالمقامات، وبأسلوب أدباء عصور الانحدار في عنايتهم بالشكل، فالريحاني تخلّى في بعض الأبيات عن الوزن، لكنّه لم يتخلّ عن القافية ورنينها المتقارب، ولم يباعد بينها، واستخدمها خارجيّاً وداخلياً، وكانت صوره فقيرة، وقد استعاض عن حركة الصورة في القصيدة بالإيقاع النثري من جهة، وبإيقاع القافية ورنينها المتواصل من جهة أخرى.

عجز الريحاني عن أن يبثّ في أبياته النسمة الشعرية، أو يدفع إليها نسائم الحياة والحركة، فكان أسلوبه قريباً من النثر الفني الذي عرفناه عند بعض أدبائنا القدماء، وكانت كتاباته تهتم بالخروج على ما هو مألوف شعريّاً، لكنّه خرج بتطبيقاته من الشعر إلى النثر، فظلّ أثره محدوداً فيما تلاه.

كان جورجي زيدان أول من أطلق على هذا اللون من الشعر مصطلح "الشعر المنثور"، وذلك حين أرسل إليه الريحاني في عام 1905م قصيدة من هذا النوع، فقدّم لها الريحاني بمقدمة بعنوان "الشعر المنثور في اللغة العربية"، وبيّن فيها محاكاة هذا اللون لشعر الفرنجة، وقال فيها "ومن أدبائنا الذين توقفوا إلى ذلك صديقنا أمين أفندي ريحاني.. وهو مولع باللغة العربية وآدابها فأحبّ أن يدخل فيها الشعر المنثور وهو من أقدر شعرائنا على ذلك"-، ثمّ ردّ عليه في عدد آخر بولس شحادة مؤيداً الولوج في هذا الباب إلى أشكال شعرية جديدة والتحرّر من القيود الثقيلة التي تثقل كاهل الشاعر-، وعلّق صاحب "الهلال" على رأي شحادة، ووجّه دعوته إلى شعراء مصر للإسهام في كتابة هذا النوع، فقال: "على أننا لا نرى ما يمنع إقدام أدبائنا على خوض هذا العباب بل نحن نستحثّهم على ذلك ليكون الشعر الموزون غير المقفّى من جملة ثمار هذه النهضة. وذلك بالطبع راجع لرأي شعرائنا العصريين وأكثر المجيدين منهم في مصر وفيهم من نفاخر به عصر البحتري أو المتنبي فإذا أجمعوا على شيء اقتدى بهم شعراء سائر الأمصار"
ولخليل مطران تجربة واحدة في هذا اللون ألقاها في حفل تأبين أستاذه الشيخ إبراهيم اليازجي في كانون الثاني سنة 1907م (توفي اليازجي في أواخر عام 1906م)، وهي بعنوان "شعر منثور –كلمات أسف"، جاء فيها: "أطلق عبراتك من حكم الوزن والقافية.

"وصعّد زفراتك غير مقطعة عروضاً ولا محبوسة في نظام.
"قل وقد نظرت إلى الموت، وهو قاتل عامد.
”ما توصيه إليك النفس لدى رؤية إثمه الرائع.
"لا عتب على الحمام. هو الظلمة والحياة والنور.
"هو الأصل الأزلي، والنور حادث زائل.
"فإذا أزهر شارق في دجنة، فهو يكافحها وينافيها
إلى أن ينقضي سببه فيتضاءل، ثمّ يتلاشى فيها…"
يلاحظ على هذا المقطع ما يلي:
1-استجابة خليل مطران لدعوة جورجي زيدان في الكتابة بهذا اللون من الشعر.
2-الدعوة إلى التعبير الشعري بعيداً عن قيود الوزن والقافية.
3-الإحساس المتدفّق والغنائية والمباشرة في تأمله في موضوع الموت.
4-الاعتماد على الموازنة والتكرار في بعض التراكيب.
لكنّ هذا المقطع لا يرتقي إلى مصاف شعر مطران الموزون المقفّى لا من حيث صوره، ولا من حيث موسيقاه، ولا من حيث تجليّاته الأسلوبية، فأقلع الخليل عن الكتابة في هذا الجنس الشعري المختلف عما كان يشتغل عليه.

أما النثر الشعري" “PROSE POETIQUE" فهو مختلف كلّ الاختلاف عن الشعر المنثور، وهو بعبارة وجيزة أن تجعل النثر يقول ما يقوله الشعر الحقيقي، وهو أن تحرّر النثر من نثريته، أو أن تكتب نثراً بلغة وصور وإيقاعات داخلية شعرية، أو أن تزرع في جسد النثر حقولاً وآفاقاً ورؤى الشعرية، وهذا ما فعله جبران خليل جبران في بعض كتاباته العربية، وبخاصة في "العواصف"، وقد كانت لديه القدرة على الرسم بالكلمات، يقول جبران في مطلع نصّه "أيها الليل"
يا ليلَ العشّاق والشعراء والمنشدين.
يا ليلَ الأشباح والأرواح والأخيلة.
يا ليلَ الشوق والصبابة والتذكار.
أيها الجبّار الواقف بين أقزام غيوب المغرب وعرائس الفجر، المتقلّد سيف الرهبة، المتوّج بالقمر، المتّشح بثوب السكون، الناظر بألف عين إلى أعماق الحياة، المصغي بألف أذن إلى أنّه الموت والعدم"
ويخاطب جبران أبناء شعبه موبّخاً على خمودهم واستكانتهم للذلّ والعبودية في مقالته "يا بني أمي": "أرواحكم تنتفض في مقابض الكهّان والمشعوذين، وأجسادكم ترتجف بين أنياب الطغاة والسّفّاحين، وبلادكم ترتعش تحت أقدام الأعداء والفاتحين، فماذا ترجون من وقوفكم أمام وجه الشمس؟
سيوفكم مغلّفة بالصدأ، ورماحكم مكسورة الحراب، وتروسكم مغمورة بالتراب، فلماذا تقفون في ساحة الحرب والقتال؟
دينكم رياء ودنياكم ادّعاء وآخرتكم هباء، فلماذا تحيون والموت راحةُ الأشقياء؟".
ويقول جبران في مقالته "بين ليل وصباح":
"اسكت يا قلبي فالفضاء لا يسمعك.
اسكت بالأثير المثقل بالنواح والعويل لن يحمل أغانيك وأناشيدك.
اسكت فأشباح الليل لا تحفل بهمس أسرارك ومواكب الظلام لا تقف أمام أحلامك.
اسكت يا قلبي، اسكت حتى الصباح، فمن يترقب الصباح صابراً يلاقي الصباح قويّاً. ومن يهوى النور فالنور يهواه.